سورة الكهف - تفسير تفسير أبي السعود

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الكهف)


        


{وَتَحْسَبُهُمْ} بفتح السين وقرئ بكسرها أيضاً، والخطابُ فيه كما سبق {أَيْقَاظًا} جمع يَقظ بكسر القاف وفتحها وهو اليقظانُ، ومدارُ الحسبانِ انفتاحُ عيونِهم على هيئة الناظرِ، وقيل: كثرةُ تقلّبهم، ولا يلائمه قوله تعالى: {وَنُقَلّبُهُمْ} {وَهُمْ رُقُودٌ} أي نيام، وهو تقريرٌ لما لم يُذْكَر فيما سلف اعتماداً على ذكره السابقِ من الضرب على آذانهم {وَنُقَلّبُهُمْ} في رقدتهم {ذَاتَ اليمين} نصبٌ على الظرفية أي جهةً تلي أَيمانهم {وَذَاتَ الشمال} أي جهةً تلي شمالَهم كيلا تأكلَ الأرضُ ما يليها من أبدانهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما: لو لم يقلّبوا لأكلتْهم الأرضُ، قيل: لهم تقليبتان في السنة. وقيل: تقليبةٌ واحدةٌ يوم عاشوراءَ، وقيل: في كل تسع سنين، وقرئ: {يقلبهم} على الإسناد إلى ضمير الجلالة، وتقَلُّبَهم على المصدر منصوباً بمضمر ينبىء عنه وتحسبهم أي وترى تقلّبَهم {وَكَلْبُهُمْ} قيل: هو كلبٌ مروا به فتبعهم فطردوه مراراً فلم يرجِع فأنطقه الله تعالى فقال: لا تخشَوا جانبي فإني أحب أحباءَ الله تعالى فناموا حتى أحرُسَكم، وقيل: هو كلبُ راعٍ قد تبعهم على دينهم ويؤيده قراءة كالبُهم إذ الظاهرُ لحوقُه بهم، وقيل: هو كلبُ صيد أحدِهم أو زرعِه أو غنمِه، واختلف في لونه فقيل: كان أنمرَ، وقيل: أصفرَ، وقيل: أصهبَ، وقيل: غير ذلك، وقيل: كان اسمُه قطمير، وقيل: ريان، وقيل: تتوه، وقيل: قطمور، وقيل: ثور. قال خالدُ بنُ مَعْدان: ليس في الجنة من الدواب إلا كلبُ أصحابِ الكهف وحمارُ بلعم، وقيل: لم يكن ذلك من جنس الكلاب بل كان أسداً {باسط ذِرَاعَيْهِ} حكايةُ حالٍ ماضية ولذلك أُعمل اسمُ الفاعل وعند الكسائي، وهشام، وأبي جعفر، من البصريين يجوز إعمالُه مطلقاً، والذراعُ من المرفق إلى رأس الأُصبَعِ الوسطى {بالوصيد} أي بموضع الباب من الكهف {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ} أي لو عاينتَهم وشاهدتَهم، وأصلُ الاطّلاع الإشرافُ على الشيء بالمعاينة والمشاهدة، وقرئ بضم الواو.
{لَوْلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا} هرباً مما شاهدتَ منهم، وهو إما نصبٌ على المصدرية من معنى ما قبله إذ التوليةُ والفِرارُ من واد واحدٍ وإما على الحالية بجعل المصدرِ بمعنى الفاعل أي فارًّا، أو بجعل الفاعلِ مصدراً مبالغة كما في قوله:
فإنما هيَ إقبالٌ وإدبارُ ***
وإما على أنه مفعولٌ له {وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا} وقرئ بضم العين أي خوفاً يملأ الصدرَ ويُرعِبه، وهو إما مفعولٌ ثانٍ أو تمييز، ذلك لما ألبسهم الله عز وجل من الهيبة والهيئةِ كانت أعينُهم مفتّحةً كالمستيقظ الذي يريد أن يتكلم، وقيل: لطول أظفارِهم وشعورِهم ولا يساعده قولُهم: {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} وقوله: {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} فإن الظاهرَ من ذلك عدمُ اختلافِ أحوالِهم في أنفسهم، وقيل: لعِظم أجرامِهم، ولعل تأخيرَ هذا عن ذكر التوليةِ للإيذان باستقلال كلَ منهما في الترتب على الاطلاع، إذ لو رُوعيَ ترتيبُ الوجودِ لتبادر إلى الفهم ترتبُ المجموعِ من حيث هو عليه وللإشعار بعدم زوالِ الرعبِ بالفرار كما هو المعتادُ.
وعن معاوية (لما غزا الروم فمرّ بالكهف، قال: لو كشفتَ لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم، فقال له ابن عباس رضي الله عنهما: ليس لك ذلك قد منع الله تعالى من هو خيرٌ منك حيث قال: {لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ} الآية، قال معاوية: لا أنتهي حتى أعلمَ علمَهم، فبعث ناساً وقال لهم: اذهبوا فانظُروا، ففعلوا فلما دخلوا الكهفَ بعث الله تعالى ريحاً فأحرقتْهم). وقرئ بتشديد اللام على التكثير وبإبدال الهمزةِ ياءً مع التخفيف والتشديد.


{وكذلك بعثناهم} أي كما أنمناهم وحفِظنا أجسادَهم من البِلى والتحلّل آيةً دالةً على كمال قدرتِنا بعثناهم من النوم {لِيَتَسَاءلُوا بَيْنَهُمْ} أي ليسأل بعضُهم بعضاً فيترتب عليه ما فُصّل من الحِكَم البالغةِ، وجعلُه غايةً للبعث المعلّل فيما سبق بالاختبار من حيث إنه من أحكامه المترتبةِ عليه والاقتصارُ على ذكره لاستتباعه لسائر آثارِه {قَالَ} استئنافٌ لبيان تساؤلِهم {قَائِلٌ مّنْهُمْ} هو رئيسُهم واسمُه مكسلمينا {كَمْ لَبِثْتُمْ} في منامكم، لعله قاله لِما رأى من مخالفة حالِهم لما هو المعتادُ في الجملة {قَالُواْ} أي بعضُهم {لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} قيل: إنما قالوه لأنهم دخلوا الكهفَ غُدوةً وكان انتباهُهم آخرَ النهار، فقالوا: لبثنا يوماً، فلما رأَوا أن الشمسَ لم تغرُبْ بعْدُ، قالوا: أو بعضَ يوم، وكان ذلك بناءً على الظن الغالب فلم يُعْزوا إلى الكذب {قَالُواْ} أي بعضٌ آخرُ منهم بما سنح لهم من الأدلة أو بإلهام من الله سبحانه {رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ} أي أنتم لا تعلمون مدة لبثِكم وإنما يعلمها الله سبحانه، وهذا ردٌّ منهم على الأولين بأجملِ ما يكون من مراعاة حسنِ الأدب وبه يتحقق التحزبُ إلى الحزبين المعهودين فيما سبق، وقد قيل: القائلون جميعُهم ولكن في حالتين، ولا يساعده النظمُ الكريم فإن الاستئنافَ في الحكاية والخطابَ في المحكيّ يقضي بأن الكلامَ جارٍ على منهاج المحاورةِ والمجاوبةِ، وإلا لقيل: ثم قالوا: ربنا أعلمُ بما لبثنا.
{فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة} قالوه إعراضاً عن التعمق في البحث وإقبالاً على ما يُهمّهم بحسب الحالِ كما ينبىء عنه الفاءُ والورِقُ الفضةُ مضروبةً أو غيرَ مضروبة، ووصفُها باسم الإشارةِ يُشعر بأن القائلَ ناولها بعضَ أصحابه ليشتريَ بها قوتَ يومِهم ذلك، وقرئ بسكون الراء وبإدغام القافِ في الكاف وبكسر الواو وبسكون الراء مع الإدغام، وحملُهم لها دليلٌ على أن التزودَ لا ينافي التوكلَ على الله تعالى {فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا} أي أهلِها {أزكى} أحلُّ وأطيبُ أو أكثرُ وأرخصُ {طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مّنْهُ} أي من ذلك الأزكى طعاماً {وَلْيَتَلَطَّفْ} وليتكلّف اللُّطفَ في المعاملة كيلا يُغبَنَ أو في الاستخفاء لئلا يُعرَف {وَلاَ يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا} من أهل المدينةِ فإنه يستدعي شيوعَ أخبارِكم أي لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى ذلك، فالنهيُ على الأول تأسيسٌ وعلى الثاني تأكيدٌ للأمر بالتلطف.


{إِنَّهُمْ} تعليلٌ لما سبق من الأمر والنهي أي لِيبالِغْ في التلطف وعدمِ الإشعار لأنهم {إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ} أي يطّلعوا عليكم أو يظفَروا بكم، والضميرُ للأهل المقدّر في أيُّها {يَرْجُمُوكُمْ} إن ثبتُّم على ما أنتم عليه.
{أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِى مِلَّتِهِمْ} أي يصيِّروكم إليها ويُدخلوكم فيها كُرهاً، من العَوْد بمعنى الصيْرورة كقوله تعالى: {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} وقيل: كانوا أولاً على دينهم، وإيثارُ كلمةِ في بدل إلى للدِلالة على الاستقرار الذي هو أشدُّ شيءٍ عندهم كراهةً، وتقديمُ احتمال الإعادةِ لأن الظاهرَ من حالهم هو الثباتُ على الدين المؤدي إليه، وضميرُ الخطاب في المواضع الأربعةِ للمبالغة في حمل المبعوثِ على الاستخفاء وحثِّ الباقين على الاهتمام بالتوصية، فإن إمحاضَ النُّصحِ أدخلُ في القَبول واهتمامُ الإنسان بشأن نفسِه أكثرُ وأوفر {وَلَن تُفْلِحُواْ إِذًا} أي إن دخلتم فيها ولو بالكرُه والإلجاء لن تفوزوا بخير {أَبَدًا} لا في الدنيا ولا الآخرة، وفيه من التشديد في التحذير ما لا يخفى.
{وكذلك} أي وكما أَنَمناهم وبعثناهم لما مرّ من ازديادهم في مراتب اليقينِ {أَعْثَرْنَا} أي أطلعْنا الناسَ {عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُواْ} أي الذين أعثرناهم عليهم بما عاينوا من أحوالهم العجيبة {إِنَّ وَعْدَ الله} أي وعدَه بالبعث أو موعودَه الذي هو البعثُ أو أن كلَّ وعدِه أوكُلَّ موعودِه فيدخُل فيه وعدُه بالبعث أو مبعثُ الموعودِ دخولاً أولياً {حَقّ} صادقٌ لا خُلْف فيه أو ثابتٌ لا مردَّ له لأن نومَهم وانتباهَهم كحال من يموت ثم يُبعث {وَأَنَّ الساعة} أي القيامةَ التي هي عبارةٌ عن وقت بعثِ الخلائقِ جميعاً للحساب والجزاء {لاَ رَيْبَ فِيهَا} لا شك في قيامها فإن من شاهد أنه جل وعلا توفى نفوسَهم وأمسكها ثلاثُمائة سنة وأكثرَ حافظاً أبدانَها من التحلل والتفتّت ثم أرسلها إليها لا يبقى له شائبةُ شك في أن وعدَه تعالى حقٌّ وأنه يبعث مَنْ في القبور فيرد إليهم أرواحَهم فيحاسبهم ويجزيهم بحسب أعمالِهم {إِذْ يتنازعون} ظرف لقوله: أعثرنا قُدّم عليه الغايةُ إظهاراً لكمال العنايةِ بذكرها، لا لقوله: ليعلموا كما قيل لدِلالته على أن التنازعَ يحدُث بعد الإعثار وليس كذلك أي أعثرناهم عليهم حين يتنازعون {بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ} ليرتفع الخلافُ ويتبينَ الحقُّ، قيل: المتنازعُ فيه أمرُ دينهم حيث كانوا مختلفين في البعث فمِن مُقِرّ له وجاحدٍ به وقائلٍ يقول ببعث الأرواحِ دون الأجساد وآخرَ يقول ببعثهما معاً. قيل: كان ملكُ المدينة حينئذ رجلاً صالحاً مؤمناً وقد اختلف أهلُ مملكته في البعث حسبما فُصّل فدخل الملكُ بيتَه وأغلق بابه ولبس مِسْحاً وجلس على رماد وسأل ربه أن يظهر الحقَّ فألقى الله عز وجل في نفس رجل من رعيانهم فهدَم ما سد به دقيانوسُ بابَ الكهف ليتخذه حظيرةً لغنمه فعند ذلك بعثهم الله تعالى فجرى بينهم من التقاول ما جرى.
روي أن المبعوثَ لما دخل المدينة أخرج الدرهمَ ليشتريَ به الطعامَ وكان على ضرب دقيانوس، فاتهموه بأنه وجد كنزاً فذهبوا به إلى الملكِ فقصّ عليه القِصة، فقال بعضُهم: إن آباءَنا أخبرونا بأن فتيةً فرّوا بدينهم من دقيانوس فلعلهم هؤلاءِ، فانطلق الملكُ وأهلُ المدينة من مسلم وكافر وأبصروهم وكلّموهم ثم قالت الفتيةُ للملك: نستودعك الله ونعيذك به من شر الإنسِ والجنّ ثم رجعوا إلى مضاجعهم فماتوا، فألقى الملكُ عليهم ثيابَه وجعل لكل منهم تابوتاً من ذهب، فرآهم في المنام كارهين الذهب فجعلها من الساج وبنى على باب الكهف مسجداً، وقيل: لما انتهَوْا إلى الكهف قال لهم الفتى: مكانَكم حتى أدخُل أولاً لئلا يفزَعوا، فدخل فعمِيَ عليهم المدخلُ فبنَوا ثمةَ مسجداً. وقيل: المتنازعَ فيه أمرُ الفتية قبل بعثهم أي أعثرنا عليهم حين يتذاكرون بينهم أمرَهم وما جرى بينهم وبين دقيانوسَ من الأحوال والأهوالِ ويتلقَّوْن ذلك من الأساطير وأفواهِ الرجال، وعلى التقديرين فالفاء في قوله عز وجل: {فَقَالُواْ} فصيحةٌ أي أعثرناهم عليهم فرَأَوا فماتوا فقالوا أي قال بعضهم: {ابنوا عَلَيْهِمْ} أي على باب كهفِهم {بنيانا} لئلا يتطرقَ إليهم الناسُ ضنًّا بتربتهم ومحافظةً عليها وقوله تعالى: {رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ} من كلام المتنازِعين كأنهم لما رأَوا عدم اهتدائِهم إلى حقيقة حالِهم من حيث النسبُ ومن حيث اللُّبثُ في الكهف قالوا ذلك تفويضاً للأمر إلى علاّم الغيوب، أو من كلام الله تعالى ردًّا لقول الخائضين في حديثهم من أولئك المتنازِعين، وقيل: هو أمرُهم وتدبيرُهم عند وفاتِهم أو شأنُهم في الموت والنومِ حيث اختلفوا في أنهم ماتوا أو ناموا كما في أول مرةٍ فإذْ حينئذ متعلق بقوله تعالى: {قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ} وهم الملِكُ والمسلمون {لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِدًا} وقوله تعالى: {فَقَالُواْ} معطوفٌ على يتنازعون، وإيثارُ صيغةِ الماضي للدِلالة على أن هذا القولَ ليس مما يستمر ويتجدد كالتنازُع، وقيل: متعلقٌ باذكر مضمَراً، وأما تعلقُه بأعثرنا فيأباه أن إعثارِهم ليس في زمان تنازُعِهم فيما ذكر بل قبلَه، وجعلُ وقتِ التنازع ممتداً يقع في بعضه الإعثارُ وفي بعضه التنازعُ تعسفٌ لا يخفى مع أنه لا مخصَّصَ لإضافته إلى التنازُع وهو مؤخرٌ في الوقوع.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8